طوق الحمامة - مراجعة
لولا وجوب وجود شاهد من كل عصر على أهله، من المؤرخين والمؤلفين والكتاب والشعراء، يوثق بعين تجربته الفريدة الفردية ما يعيشه أهله ومجتمعه ووطنه، لولا هذا فحسب، لكان كتاب "طوق الحمامة" أوفى وأحق ما كُتِبَ في أحوال المحبين؛ فكما قال الرافعي في وحي القلم: "ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى -كالإيمان والجمال والحب، والخير والحق- ستبقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة."
منذ ما يزيد عن ألف سنة، قدَّم ابن حزم الأندلسي تحفة أدبية محكمة، في الألفة والأُلَّاف، مزيج مما اختبره وشهده وقُصَّ عليه، وبعض أشعاره التي استلهمها منه، ولم أخرج من الكتاب بشيء أكبر من كونه دليل وبرهان على أن الإنسان مهما بلغت به الحداثة يظل له القلب ذاته، والعواطف ذاتها، والأنماط عينها من التفكير والعمل، مهما بلغت تفسيراتنا لها من تعقيد، ستظل هي كما هي، على تعقيدها وبساطتها، واحدة.
فإن كنت قد ذقت الحب، ستجد تصديقًا لما اختبرت، وإن لم تعرف الحب ستتعرف عليه معرفة ينقصها الإدراك لا أكثر؛ فليس من ذاق كمن لم يذق؛ فمعانيه "دقت لجلالتها عن أن توصف"، وحقيقتها "لا تدرك إلا بالمعاناة"، وهو "ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله عز وجل".
عندما أقدمت على قراءة الكتاب، لم يكن لأعرف أحوال الحب والمحبين في عهد
مضى، بل لأني قد وجدت فيه أكثر من اقتباس غير مرة يصف بأشد دقة ما يعيشه الإنسان منا
في هذا الزمان وهذا العصر. يكاد يكون حال الإنسان قبل الحب أشبه بحال الحمامة، نقية
حرة طليقة، حتى إذا أصابه شيءٌ من الحب طُوِّقَ وقُيِّدَ به واُختبر دينه واختبرت
مبادئه، فيكون حينها الحب داءه ودواءه، وقبله هو صحيح وبعده عليل لا صحة له إلا به،
حتى يأذن الله بشفائه. وبوصف هذا الحال وغيره، ووصف المِحَن والاختبارات التي يخلقها
الحب، أرى "طوق الحمامة" بحق، كتاب قد اجتاز به ابن حزم حدود الزمن.

تعليقات
إرسال تعليق