حتى اللقاء

 أُفَضِّلُ أن أقول إلى اللقاء، ولا أحب أن أقول وداعًا؛ لأن الدنيا كما لها طريقتها المؤلمة في قطع ما اتصل وتمزيق ما التحم، فإن الحياة أيضًا لها طريقتها العجيبة في بثِّ الروح فيما قد عفى عليه الزمن، وجعل الطرق المتوازية تتقاطع بعد استحالة اللقيا. 

أُفَضِّلُ أن أقول إلى اللقاء، حتى وإن قال عقلي  أنه الوداع؛ لأن قلبي يعِزُّ عليه أن يجزم باستحالة أمل يُسَلِّيه، ولأن التمييز بين صوت حدسي وصدى صدمات عمري يستغرق وقتًا لا بأس به.

فإلى اللقاء، وبين الآن وحتى اللقاء، أتمنى أن تكون الدنيا حنونة عليك في تلقينك الدروس التي لولا ضرورتها لما اضطررنا إلى الفراق.
أتمنى أن يهبك الله بصيرةً ترى بها حكمَته، وسعةَ صدرٍ تدركُ بها رمادية كل شيء حولنا، ومحبةً كبيرةً تَقبَل بها كل ذلك.

أتمنى أن يصل اللين إلى روحك وعقلك كما رأيتُه في جوارحك. أتمنى ألَّا يغلبك الشيطان أبدًا، وألَّا يعميك عن أن ترى الجمال في كل شيء: أن ترى عظيم صنع الله في كل شيء.  

أتمنى ألَّا يجد الخوف طريقه إلى قلبك البريء أبدًا، ولإننا بشر فحتمًا سيتسلل إليك، لذلك أتمنى أن يهبك الله الثبات حينها لتَقْبَلَه وتغالِبَه حتى تَغْلِبَه. أتمنى أن تحفك رحمات الله من كل جانب.

أتمنى ألَّا يكون مروري في حياتك هباءً، وحاشا لله أن يقدر أي شيء عبثًا، أتمنى أنه قد كان خفيفًا لطيفًا رغم قسوة البَيْن، وأتمنى أن تلمس له أثرًا طيبًا -وتذكرني بالخير- ولو بعد حين. 

فإلى اللقاء، حتى لو لم يكن قد كُتِبَ في العمر لقصتنا بَقيِّة، أتمنى حين نلتقي مجددًا أن تكون نظرتنا لبعضنا حانية، رغم الألم الذي أرغمتنا الدنيا على أن نسببه لبعضنا.
فإلى اللقاء، وحتى اللقاء، أتمنى أن تغفر لي وأن أغفر لك، وأن نغفر للدنيا قسوتها التي جُبِلَتْ عليها.

لا أُخفيك، أنت تذكرني بنفسي، بنسخة أصغر وأكثر جمودًا مني، عمل بها الزمن ما عمل حتى لانَت، وزادت قوتها في وجه ما يجابهها. فَطِنتُ إلى أنك على وشك خوض ما سبقتُك أنا إليه، وأردتُ أن أرافقك في رحلتك هذه؛ لأني أعلم مقدار الوحدة والتخبط اللذان يصيبان المرء فيها، ولكني تناسيت وتجاهلت أنها رحلة يجب أن يخوضها المرء بمفرده، ومآلُها يعتمد على توفيق الله فقط، لا نخوضها بذكائنا أو حصافتنا، بل بقلبٍ بريء شجاع يبتغي فقط حياة أصدق، حياة أجمل رغم ما يغشى العالم من ضباب وقبح. 

والآن وحتى اللقاء وبعده وأبدًا، أوصيك بقلب صادقٍ لم يُرِدْ سوى سعادتك: أن تُقبِل على الحياة بفضول طفل وشغف شاب وعقل كهل؛ أوصيك أن تبحث عن الجمال في كل شيء. 

قد يصلك كلامي وقد لا يصل، ولكني أوقن أنه وإن لم يبلغ عينيك، سيبلغ روحك، فقد كانت روحي يومًا أليفها، وما هي إلا جنود مجندة.


تعليقات

اقرأ أيضًا

ممتلئ بالفراغ - مراجعة

ما وراء "كانوا سرابًا"

الحب حرية؟!